haidarمارس 31st 2013, 1:30 am
قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)}
الكلام في البسملة:
وفيها سبع وعشرون مسألة:
الأولى: قال العلماء: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام.
وقال بعض العلماء: إن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.
الثانية: قال سعيد بن أبي سكينة بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى رجل يكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها بسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري.
وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى مثل الذباب».
وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: {وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} قال معناه: إذا قلت: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قل: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} وهم يقولون في كل أفعالهم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فمن هناك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها ليلة سبع وعشرين، مراعاة للفظة هي من كلمات سورة: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول». قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.
الثالثة: روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكتب «باسمك اللهم» حتى أمر أن يكتب: «بسم الله» فكتبها، فلما نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} كتب «بسم الله الرحمن» فلما نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} كتبها.
وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي صلى اله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل.
الرابعة: روى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.
قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا:
الأول: ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك.
الثاني: أنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك.
الثالث: قال الشافعي هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل. واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا قرأتم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فاقرءوا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني و{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} أحد آياتها». رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر، وعبد الحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}. وذكر الحديث، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.
الخامسة: الصحيح من هذه الأقوال قول ماك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار لآحاد وإنما طريقة التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه. والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها.
روى مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال مجدني عبدي وقال مرة ف. ض إلى عبدي فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». فقوله سبحانه: «قسمت الصلاة» يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع ءايات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: «هؤلاء لعبدي» أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية. قال ابن بكير قال مالك: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة» قال: فقرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم وقلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآنا، أو لكونها فاصلة بين السور كما روى عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} أخرجه أبو داود أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتابتها في أوائل الكتب والرسائل؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري: سئل الحسن عن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال: في صدور الرسائل.
وقال الحسن أيضا: لم تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في شيء من القرآن إلا في طس: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة، والحمد لله. فإن قبل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} لأفي أول قراءة ولا في آخرها. ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} اتباعا للسنة، وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أول على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا.
وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سرا ولا جهرا، ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السور في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن.
وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لأبد فيها من {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} منهم ابن عمر، وابن شهاب، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم أبو حنيفة والثوري، وروى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحماد، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وروى عن الأوزاعي مثل ذلك، حكاه أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار. واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يسمعنا قراءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحد منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روى عن سعيد بن جبير قال: كان المشركون يحضرون بالمسجد، فإذا قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة يعنون مسيلمة فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها}. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقى ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.
السادسة: اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فر. ى مجالد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب: هو الذي نختاره ونستحبه.
السابعة: قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غذاه لقيتها *** فيا حبذا ذلك الحبيب المبسمل
قلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل، إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة، أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال أدام الله عزك.
الثامنة: ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل، كالأكل والشرب والنحر، والجماع والطهارة وركوب البحر، وإلى غير ذلك من الأفعال، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}... {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله». وقال: «لو أن أحدكم أذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا».
وقال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» وقال: «إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه» وقال: «من لم يذبح فليذبح باسم الله». وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر». هذا كله ثابت في الصحيح.
وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله».
وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.
التاسعة: قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا. فمعنى: {بسم الله}، أي بالله. ومعنى: {بالله} أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم: معنى قوله: {بسم الله} يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته، وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.
العاشرة ذهب أبو عبيد معمر بن المثني إلى أن اسم صلة زائدة واستشهد بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر اسم زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إ ن شاء الله تعالى.
الحادية عشر: اختلف في معنى زيادة اسم فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه.
وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لإن أصل الكلام: بالله.
الثانية عشر: اختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدا بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان: الأول للقراء، والثاني للزجاج. ف {بسم الله} في موضع نصب على التأويلين.
وقيل: المعنى ابتدائي بسم الله، ف {بسم الله} في موضع رفع خبر الابتداء.
وقيل: الخبر محذوف، أي ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله، فإذا أظهرته كان {بسم الله} في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار.
وفي التنزيل: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} ف {عِنْدَهُ} في موضع نصب، روى هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، ف {باسم} في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.
الثالثة عشر: {بسم الله}، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فإنها تحذف لقلة الاستعمال.. اختلفوا في حذفها مع الرحمن والقاهر، فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف.
وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع {بسم الله} فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه.
الرابعة عشر: واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان، فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء.
الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما، نحو الكاف في قول الشاعر:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ***
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله.
الخامسة عشر: ايم، وزنه أفع، والذاهب منه الواو لأنه من سموت، وجمعه اسماء، وتصغيره سمى. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذع، وقفل وأقفال، وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم بالكسر، واسم بالضم. قال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذ من سمت أسمى. ويقال: سم وسم، وينشد:
والله أسماك سما مباركا *** أثرك الله به إيثاركا
وقال آخر:
وعامنا أعجبنا مقدمه *** يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا لكل عظم يلحمه ***
قرصب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. سمه بالضم والكسر جميعا. ومنه قول الآخر:
باسم الذي في كل سورة سمه ***
وسكنت السين من {باسم} اعتلالا على غير قياس، والفة ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة، كقول الأحوص:
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك *** ولا من تسمى ثم يلتزم الاسما
السادسة عشر: تقول العرب في النسب إلى الاسم: سموى، وأنشئت اسمى، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء إسام.
وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله.
السابعة عشر: اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل إنما سمى الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل، فلعلوه عليهما سمى اسما فهذه ثلاثة أقوال.
وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا وسم. والأول أصح، لأنه يقال في التصغير سمى وفي الجمع أسماء، والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي:
الثامنة عشر: فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته، وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بال اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقي بال اسم ولا صفة، وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطإ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي التاسعة عشر: فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم، فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق، فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل. قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في البقرة والأعراف إن شاء الله تعالى.
الموفية عشرين: قوله: {الله} هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، لذلك لم يثن ولم يجمع، وهو أحد تأويلي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي من تسمى باسمه الذي هو الله. فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه.
وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد.
وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال، والمعنى واحد.
الحادية والعشرون: واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله، فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس.
وقيل: أصل الكلمة لاه وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عني ولا أنت دياني فتخزوني
كذا الرواية: فتخزوني، الخاء المعجمة ومعناه: تسوسني.
وقال الكسائي والفراء: معنى: {بسم الله} بسم الإله، فخذوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة، كما قال عز وجل: {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ومعناه، لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من وله إذا تحير، والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل وله وامرأة والهة وواله، وماء مولة: أرسل في الصحاري. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل إلاه ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في أشاح ووشاح، وإسادة ووسادة، وروى عن الخليل.
وروى عن الضحاك أنه قال: إنما سمى الله إلها لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه بنصب اللام ويألهون أيضا بكسرها وهما لغتان. وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت.
وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تنسك، ومن ذلك قوله تعالى: {ويذرك وإلاهتك} على هذه القراءة، فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: لا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. وإلا في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه الهاء التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجدا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار له ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما. القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضا منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفها منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا لله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.
الثانية والعشرون: واختلفوا أيضا في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لااشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فحاز أن يقال: الله رحمان بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ} الآية. ولما كتب على رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال سهيل بن عمرو: أما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فما ندري ما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهاي يا حلوينا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ}. وذهب الجمهور من الناس إلى أن {الرحمن} مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثني ولا يجمع كما يثنى {الرحيم} ويجمع. قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.
الثالثة والعشرون: زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب الزاهر له: أن {الرحمن} اسم عبراني فجاء معه ب {الرحيم}. وأنشد:
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم *** بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
أو تتركون إلى القسين هجرتكم *** ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: {الرحيم} عربي و{الرحمن} عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه.
وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر.
وروى مطرف عن قتادة في قوله عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق:
وهذا قول حسن.
وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.
الرابعة والعشرون: واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للممتلئ غضبا. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس:
فأما إذا عضت بك الحرب عضة *** فإنك معطوف عليك رحيم
ف {الرَّحْمنِ} خاص الاسم عام الفعل. و{الرَّحِيمِ} عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو على الفارسي: {الرَّحْمنِ} اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله. و{الرَّحِيمِ} إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
وقال العرزمي: {الرَّحْمنِ} بجميع خلقه في الأمصار ونعم الحواس والنعم العامة، و{الرَّحِيمِ} بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم.
وقال ابن المبارك: {الرَّحْمنِ} إذا سئل أعطى، و{الرَّحِيمِ} إذا لم يسأل غضب.
وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» لفظ الترمذي.
وقال ابن ماجة: «من لم يدع الله سبحانه غضب عليه». وقال: سألت أبا زراعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
الله يغضب إن تركت سؤله *** وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة. قال الخطابي: وهذا مشكل، لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى.
وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شي، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل، «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف».
الخامسة والعشرون: أكثر العلماء على أن {الرَّحْمنِ} مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} فأخبر أن {الرحمن} هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب لعنه الله فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كاذبا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم، ذكره ابن العربي.
السادسة والعشرون: {الرَّحِيمِ} صفة للمخلوقين، ولما في: {الرَّحْمنِ} من العموم قدم في كلامنا على {الرَّحِيمِ} مع موافقة التنزيل، قاله المهدوي.
وقيل: إن معنى: {الرَّحِيمِ} أي بالرحيم وصلتم إلى الله، ف {الرَّحِيمِ} نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد نعته تعالى بذلك فقال: {لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن وبالرحيم، أي وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلتم إلى، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي، والله أعلم.
السابعة والعشرون: روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما {الرَّحْمنِ} فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما {الرَّحِيمِ} فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وقد فسره بعضهم على الحروف، فروى عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فقال: «أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر منخلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة».
وروى عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل أن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حلم، والنون مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كله دعاء الله تعلى عند افتتاح كل شي.
الثامنة والعشرون: واختلف في وصل {الرَّحِيمِ} ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، فروى عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ} يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: {الرَّحِيمِ الْحَمْدُ}، تعرب {الرَّحِيمِ} بالخفض وبوصل الألف من {الْحَمْدُ}.
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ {الرَّحِيمِ الْحَمْدُ} بفتح الميم وصلة الألف، كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو هذه القراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: {الم اللَّهُ}.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)}
الأولى: قوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي».
وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها.
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ» وفي نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك». قال أبو عبد الله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا، ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها، لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات، قال الله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا} [مريم: 76]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله، فهذا في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا من الله، وكلاهما من الله في الأصل، الدنيا منه والكلمة منه، أعطاه الدنيا فأغناه، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة.
وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم: «أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها». قال أهل اللغة: أعضل الامر: اشتد واستغلق، والمعضلات بتشديد الضاد: الشدائد. وعضلت المرأة والشاة: إذا نشب ولدها فلم يسهل مخرجه، بتشديد الضاد أيضا، فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء. والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطهور شطر الايمان والحمد لله تملا الميزان وسبحان الله والحمد لله تملان أو تملا ما بين السماء والأرض» وذكر الحديث.
الثانية: اختلف العلماء أيما أفضل، قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل، لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل، لأنها تدفع الكفر والاشراك، وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
الثالثة: أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الايمان، فدل على أن الايمان فعله وخلقه، والدليل على ذلك قوله: {رَبِّ الْعالَمِينَ}. والعالمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الايمان، لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم، على ما يأتي بيانه.
الرابعة: الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته *** بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر:
إلى الماجد القرم الجواد المحمد ***
وبذلك سمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الشاعر:
فشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجل: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حمده مثل همزة يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحمده النار بالتحريك: صوت التهابها.
الخامسة: ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضى. وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله، إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه، لأن قولك شكرا، إنما خصصت به الحمد، لأنه على نعمة من النعم.
وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد، لأنه باللسان وبالجوارح والقلب، والحمد إنما يكون باللسان خاصة.
وقيل: الحمد أعم، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمه كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله.
وقال الله لنوح عليه السلام: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقال إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ}.
وقال في قصة داود وسليمان: {وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا}.
وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}. فهي كلمة كل شاكر.
قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا، يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قول تعالى: {مَقاماً مَحْمُوداً}.
وقال عليه السلام: «أحمد إليكم غسل الإحليل» أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد جاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله.
وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.
السادسة: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}.
وقال عليه السلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب» رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في النساء إن شاء الله تعالى. فمعنى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار.
وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل، فاستفراغ طوق عباده هو محل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: {لا أحصى ثناء عليك}. وأنشدوا:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح *** فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وقيل: حمد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المنة.
السابعة: وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بنصب الدال، وهذا على إضمار فعل. ويقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله.
وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال.
وفي الحديث: «من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده، فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناء أثنى به على نفسه، وفى ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجئ قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وأعلم أنني سأكون رمسا *** إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم *** فقال القائلون لهم وزير
المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبلة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول، وليتجانس اللفظ، وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم، نحو: أجوءك، وهو منحدر من الجبل، بضم الدال والجيم. قال:
أضرب الساقين أمك هابل ***
بضم النون لأجل ضم الهمزة.
وفي قراءة لأهل مكة: {مردفين} بضم الراء اتباعا للميم، وعلى ذلك مقتلين بضم القاف. وقالوا: لامك، فكسروا الهمزة اتباعا للأم، وأنشد للنعمان بن بشير:
ويل أمها في هواء الجو طالبة *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
الأصل: ويل لامها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: {الحمد لله} بكسر الدال على اتباع الأول الثاني.
الثامنة: قوله تعالى: {رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك.
وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك، قال الحارث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يو *** م الحيارين والبلاء بلاء
والرب: السيد، ومنه قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
وفي الحديث: «أن تلد الامة ربتها» أي سيدتها، وقد بيناه في كتاب التذكرة. والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب.
وفي الحديث: «هل لك من نعمة تربها عليه» أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود، ومنه قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه *** لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس.
وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنى أي رباه. والمربوب: المربى.
التاسعة: قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم، لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال. واختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}. فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.
العاشرة: متى أدخلت الألف واللام على رب اختص الله تعالى به، لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، فالله سبحانه رب الأرباب، يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورزقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئا دون شي، وصفه الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {الْعالَمِينَ} اختلف أهل التأويل في: {الْعالَمِينَ} اختلافا كثيرا، فقال قتادة: العالمون جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط